دكتور أيلي أبو عون ” مدير برامج شمال افريقيا والمكتب الإقليمي في معهد الولايات المتحدة للسلام ”
ديسمبر\كانون الأول 2022
بمجرد وصول الزائر الى مطار سبها، يجد ترحيبا استثنائيا رغم ثقل العزلة المتعمدة من قبل الأنظمة المتتالية على الدولة الليبية منذ أكثر من خمسة عقود. فلا الثورة الجماهيرية ودجاليها ولا من خَلَفهم بعد 2011 -ومنهم دجالين كثر-وفروا لهذا الاقليم الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم.
رب قائل – وعن حق- ان المتحكمين بالقرار السياسي المركزي في العاصمة أمعنوا في اهمال كل المناطق والاقاليم الليبية وهذا ما يبدو واضحا في إقليم برقا مثلا. الا ان للجنوب الليبي خصوصية لا بد من الإضاءة عليها بعد الزيارة التي قمت بها في شهر ديسمبر\كانون الأول برفقة زميلاتي وزملائي في معهد السلام.
يتمتع إقليم الفزان بتنوع مزدوج جغرافي وديموغرافي. رغم الانطباع انه منطقة صحراوية الا ان الإقليم يضم أيضا مرتفعات ووديان وجبال صخرية بالإضافة الى واحات وانهر جافة. ويترافق هذا المزيج الجغرافي بتنوع عرقي وقبلي ولغوي وثقافي، اذ يسكن إقليم الفزان عدة قبائل عربية بالإضافة الى التبو والطوارق. ورغم غنى الإقليم بحقول النفط ووجود مقومات لإنشاء اقتصاد محلي متنوع ومستدام، الا ان حال البنية التحتية في مدن الجنوب الليبي ومستوى الخدمات لا يتوافق مع كون ليبيا احدى أهم الدول النفطية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بالرغم من هذا الواقع المرير، ينتاب زائر الجنوب الليبي شعور يمتزج فيه عنصر المفاجأة مع الرجاء عند الاصغاء الى الأولويات التي تحددها وجوه فزان الاجتماعية والإدارية والأمنية. إذا كان من البديهي ان يعبر هؤلاء اولا -وبقوة- عن المظلومية التي لازمتهم على مدى أجيال، الا ان اهم ما يشغل بال اهل الجنوب، بكافة أطيافهم، هو كيفية إرساء حد أدنى من الأمن والوئام بين مكونات فزان المتنوعة.
للوهلة الأولى، يعتقد الزائر ان تاريخ التهميش والنزاعات المسلحة واستخدام التنوع -قبل وبعد 2011- من أطراف سياسية وإقليمية ومجموعات مسلحة لتأليب المكونات ضد بعضهم سوف يحث اهل ووجهاء الجنوب ان يدافع كل عن قضيته وقضية المكون الذي ينتمي اليه، خاصة بوجود وفد يمثل معهد أمريكي. الا انني تفاجأت بموقف مختلف تماما.
لقد قابلت خلال الزيارة مجموعة متنوعة من كل المكونات القبلية والعرقية والثقافية منهم مسؤولين في مؤسسات الحكم المحلي ومنهم امنيين واخرين يمثلون بعض منظمات المجتمع المدني. وفي شتى الاجتماعات في مدينتي سبها واوباري لم اسمع الا رسالة واحدة يمكن تلخيصها كالاتي: طموحنا هو العيش بكرامة ووئام وشتى ما نريد هو الحد من سطوة الحكم المركزي ومن تدخل القوى الأجنبية والإقليمية وذلك من أجل نجاح جهودنا في صون وحماية التماسك الاجتماعي.
عند التمعن بمعاني هذه الرسالة، نجد أولا إصرارا شديدا على ان تلك الجهود -في مجال التماسك الاجتماعي- هي جهود ليبية-ليبية لا يعدو أي دور أجنبي فيها الا ان يكون من باب التيسير والمساعدة الفنية. اما كل ما تبقى يفترض به ان بكون من صلاحية واختصاص الأطراف الليبية ذات الصلة.
من جهة أخرى، تبرز إرادة صلبة وظاهرة بان يتم طي صفحة النزاعات والقتل والتطلع الى الامام، الى عقد اجتماعي جديد يسمح بإنشاء علاقات ثقة وتعاون بين المكونات وذلك بهدف تهدئة وتأمين المنطقة وإتاحة الفرص الاستثمارية والاقتصادية اذ ان حيوية الدورة الاقتصادية من اهم عناصر صون التماسك الاجتماعي.
ومن الخلاصات الواضحة لزائري الجنوب من الأجانب هو عدم اكتراث الأغلبية الساحقة من السكان بالنقاش السياسي الدائر في ليبيا اذ ان اهل الجنوب لا يكترثون اطلاقا للجدل البيزنطي عن شرعية – أو عدمها- الأجسام السياسية أو الانتخابات أو التنافس غير الشريف على السلطة. فأغلب من قابلتهم شدد على ضرورة إيجاد صيغة تعزز الحكم المحلي وتمنحه الحيز المطلوب لإدارة شؤون الاقليم بشكل فعال وشفاف دون سطوة من السلطة المركزية.
تتمحور مطالب مكونات إقليم الفزان حول انهاء حالة التهميش عبر تدعيم الدورة الاقتصادية وتمكين أجهزة الحكم المحلي للقيام بواجبهم لتوفير الحد الأدنى من الخدمات. وان تم هذا، سوف تتوفر بيئة مشجعة وداعمة لجهود إعادة بناء التماسك الاجتماعي والتعامل مع النزاعات الماضية بين اهل الاقليم بطريقة تحفظ حقوق الضحايا – من جميع المكونات- وتتطلع بنفس الوقت قدما الى خلق اليات تمنع السقوط مجددا بدوامة العنف. وكل هذا سوف يكون له أثر إيجابي واضح على محاولات قطع الطريق على المنظمات الإرهابية وعصابات الاتجار بالبشر وكل النشاطات الأخرى التي تقوض امن ليبيا والجوار. من هنا -من انهاء التهميش المتعمد-تبدأ رحلة إعادة الاستقرار الى إقليم الفزان خاصة والي ليبيا عامة.