Elie
This piece was originally published on the asswak-alarab website https://www.asswak-alarab.com/
الدكتور إيلي أبو عَون*
في وقتٍ يحتفلُ العالم بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يبدو النظامُ الدولي لحقوقِ الإنسان الذي تأسّسَ بموجبه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في وَضعٍ مُؤلمٍ جدًا. بالنسبة إلى معظم الباحثين والخبراء والمُمارسين، لا يُشكِّلُ هذا الانهيار مُفاجَأة. على مدار العقود القليلة الماضية، أساءت الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، وشوَّهَت، بل وأفسدت في كثيرٍ من الأحيان النظامَ الذي أُنشِئ لحماية الكرامة المُتأصّلة في كلِّ إنسان.
الإعلان، الذي تم اعتماده في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أطلقَ مجموعةً شاملة من المبادئ والحقوق التي يجب حمايتها عالميًا. وكان بمثابةِ الأساس الأخلاقي والسياسي لأدوات حقوق الإنسان اللاحقة. وبناءً على هذا الإعلان، تمَّ اعتمادُ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العام 1966. ومعًا إلى جانب الإعلان، يُحدّدُ هذان العهدان والمعاهدات اللاحقة مجموعةً واسعة من الحقوقِ المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العالمية.
من المؤسف أنَّ الأساس الفلسفي للإعلان العالمي كثيرًا ما تحجبه “وَضعيةٌ قانونية” لمدرسةٍ فكرية تؤكّدُ على المبادئ القانونية لمُختلف المعاهدات والأدوات التي تُشكّل القانون الدولي لحقوق الإنسان. ومع ذلك، فإنَّ أهمية الإعلان والركيزة الأساسية للادعاء بأنه يعكس القِيَمَ العالمية لا تكمن في المواد نفسها بل في الديباجة.
من خلالِ وَضعِ فهمٍ عميق للمبادئ الأخلاقية والفلسفية لعمليةِ صياغة الإعلان، لعب الدكتور شارل مالك، الديبلوماسي والفيلسوف والأكاديمي اللبناني، دورًا أساسيًا في تشكيلِ الأساس المفاهيمي للإعلان، وأبرزها الديباجة. وباعتباره مُدافِعًا قويًا عن فكرة الكرامة الإنسانية، فإنَّ تأثيره في الديباجة واضحٌ بشكلٍ خاص في اللغة واللهجة التي تؤكّد على القيمة والكرامة المتأصّلتَين لكل شخص، ما يضفي على الإعلان طابع “العالمية”.
في السنوات الخمس والسبعين الماضية، لم يتمّ احتضانُ حقوقَ الإنسان بشكلٍ كامل على المستوى العالمي من قبل جميع الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، ناهيك عن المجتمعات. ومع ذلك، حتى التسعينيات، تمَّ إحرازُ تقدّمٍ على جبهاتٍ عدة. إنَّ الانتقالَ من “الإعلان” البسيط إلى الأدوات الأكثر إلزامًا (المواثيق والمعاهدات… إلخ) اعتبارًا من ستينيات القرن العشرين كانَ يتطلّبُ من الدولِ الأعضاء الاعترافَ بالالتزامات القانونية المُتَرَتّبة على التوقيع وإبرام هذه المواثيق والمعاهدات. وهذا يعني أن الحكومات كان عليها أن تتحوَّلَ من مُجَرّدِ “التعبير عن النوايا” إلى الالتزام العالمي. علاوةً على ذلك، كان على غالبية البلدان أن تدمجَ مبادئ حقوق الإنسان في أُطُرِها القانونية الوطنية ومؤسّساتها القائمة لحمايةِ هذه الحقوق وتعزيزها. وعلى الرُغمِ من حقيقةِ أنَّ هذه الآليات لم تكن دائمًا فعّالة أو مُتاحة أو مُستَخدَمة بشكلٍ صحيح، إلّا أَّنَّ وجودَها لمُعالجةِ بعضِ أنواعِ الانتهاكات على الأقل أحدَثَ فرقًا. وسمح هذا التطور أيضًا بازدهارِ القطاع الثالث (المنظّمات غير الحكومية، وغير الربحية، والتي تُركّزُ في الغالب على القِيَم) الذي تمَّ تعزيزُ دوره في مراقبة حقوق الإنسان وحمايتها، بما في ذلك دور أكبر في مجال السياسات العامة.
تتلخّصُ نظرية التغيير في النظام الدولي لحقوق الإنسان في أنه من خلال معالجة القضايا الأساسية مثل التمييز، وعدم المساواة، والافتقار إلى القدرة على الوصول إلى الموارد، يُمكنُ مَنعُ ظهور المظالم التي يمكن أن تتصاعدَ إلى نزاعاتٍ مسلّحة. وبما أنها وفّرت إطارًا لمُعالجةِ المظالم وحلّ النزاعاتت سلميًا، فإنَّ مبادراتٍ مثل لجان الحقيقة والمصالحة، التي تنطلق جذورها من مبادئ حقوق الإنسان، استُخدِمت لمعالجة أثار النزاعات وبناء الأساس للسلام الدائم. ويتضمّن القانون الدولي لحقوق الإنسان أحكامًا لحمايةِ المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. إنَّ إتفاقيات جنيف، على سبيل المثال، تضع قواعدَ للمُعاملة الإنسانية للمدنيين وأسرى الحرب. ورُغمَ كلِّ الصعاب، ساهمت هذه المعايير في الحدِّ من تأثير النزاعات المسلحة على المدنيين الأبرياء. وأينما أمكن، فإن تعزيزَ الحَوكمة الشمولية، حيث يكونُ للأفرادِ الحقُّ في المشاركة في عمليات صنع القرار، ساهمَ في الاستقرارِ السياسي وقَلَّلَ من احتمالاتِ نشوب نزاعاتٍ داخلية. ويؤكّدُ نظامُ حقوق الإنسان على أهمّية التنمية الشاملة والمستدامة. إنَّ معالجةَ الفوارق الاقتصادية والاجتماعية تساعدُ على بناءِ مجتمعاتٍ أكثر مرونة والمساهمة في تحقيق السلام والأمن في المدى الطويل.
في حين يتمُّ تقديم نزاعات يوغوسلافيا السابقة وميانمار ورواندا وغيرها من النزاعات كأمثلةٍ لكيفيّة فَشَلِ النظام الدولي لحقوق الإنسان، فمن العدل الاعتراف بأنه على الرُغم من أنَّ النظامَ فشل في منع حدوث الإبادة الجماعية أو غيرها من الفظائع، إلّا أنه شكّلَ آليات المُساءَلة المُرتَبِطة بهذه الإبادة الجماعية. وساهمت المحاكم المُنشَأة بموجب النظام الدولي لحقوق الإنسان في المساءلة من خلال مُحاكَمَة (بعض) الأفراد المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وبدون المحاسبة، سيتمّ مصادرة حقوق الضحايا، ما يفتح الباب أمام دوراتٍ لا نهايةَ لها من العنف. ولعبت آليات حقوق الإنسان دورًا في رَصدِ انتهاكاتِ حقوقِ الإنسان خلال مفاوضات السلام في كولومبيا. وساعدت على تسليط الضوء على الانتهاكات، وساهمت في بناء الثقة بين الأطراف، وسهّلت تعميم اعتبارات حقوق الإنسان في اتفاقيات السلام. كما إنَّ العقوبات التي فُرِضَت على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ساعدت على تفكيك النظام التمييزي وإقامة حكومة ديموقراطية متعدّدة الأعراق.
إن السجلَّ الضعيف نسبيًا للتأثير الإيجابي لنظامٍ عمره 75 عامًا يُسلّطُ الضوء على الحقائق المريرة المُتمثّلة في أنَّ الالتزامَ الكامل والعالمي تُعَوِّقه عواملُ سياسية وثقافية واقتصادية؛ و”تضارب المصالح” حيث أن الجهات نفسها المسؤولة عن هذه الحقوق هي التي يمكنها تحديد ما إذا كانت أوفت، أم لا، بالتزاماتها.
إن النمطَ الثابت لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الحكومات التي تُعطي الأولوية لسلطتها واستقرارها على حساب حماية الحقوق الفردية لا يزال يزدهر ويظل بدون عقاب إلى حد كبير. وتستشهدُ هذه الحكومات بميثاق الأمم المتحدة، بحجة أن التدخّلَ الخارجي، حتى في حالات انتهاكات حقوق الإنسان، يُشكّلُ انتهاكًا لاستقلالها وسيادتها. غالبًا ما تشهد النزاعات المسلَّحة، وخصوصًا تلك التي طال أمدها أو تلك -الأكثر تواترًا في الوقت الحاضر- التي تُشارِكُ فيها جهاتٌ مسلّحة من غير الدول، انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان. تتجاهل الأطراف المتحاربة، طَوعًا وبشكلٍ منهجي، المعايير الدولية، لكنها لا تخضع للمساءلة. لا يزال التمييز على أساس عوامل مثل العرق والجنس والدين والتوجه الجنسي يمثل تحدّيًا عالميًا. يُعاني العديد من المجتمعات من التحيّزات العميقة الجذور، ما يؤدّي إلى تهميش مجموعات مُعَيَّنة. وفي العديد من الحالات، وعلى نحوٍ مُتزايد في العقود الأخيرة، نجحَ أنصارُ الخصوصية الثقافية في التأكيد على أنَّ حقوقَ الإنسان مُحَدَّدة ثقافيًا، وأنه لا يوجد معيارٌ عالمي ينطبقُ على جميع المجتمعات. لقد تمكّنوا من خلقِ جيوبِ مقاومة لتنفيذها من خلال القول بأنَّ بعضَ الحقوقِ قد يتعارَضُ مع الأعرافِ أو التقاليد الثقافية.
لكن ربما الأمر الذي كان الأكثر ضررًا هو اعتماد منهجٍ للمعايير المزدوجة عندما يتعلّقُ الأمرُ بحقوقِ الإنسان. ولأسبابٍ واضحة، تعترضُ الحكومات على وصفِ سياساتها بأنها ذو معايير مزدوجة، وتُبرّرُ سلوكها بـ”معضلة الديموقراطية والأمن”، وتعقيدات العلاقات الدولية، والحاجة إلى نهجٍ دقيق في التعاملِ مع التحدّيات الجيوسياسية المُتنوِّعة.
تنتقدُ الحكومات الغربية أو تُدينُ بشكلٍ انتقائي انتهاكات حقوق الإنسان استنادًا إلى مصالح استراتيجية بدلًا من الالتزام الثابت بحقوق الإنسان. وتُقدّمُ هذه الحكومات نفسها الَدعمَ السياسي، وغالبًا ما تُشارِكُ في بيع الأسلحة لأنظمةٍ ذات سجلّاتٍ مشكوكٍ فيها في مجال حقوق الإنسان. ومن خلال تجاهُلِ أو تبريرِ مُمارسات التعذيب أو الاعتقال التعسّفي أو غيرهما من الممارسات التي تتعارَضُ مع مبادئ حقوق الإنسان، فإنها تُقوِّضُ مصداقية الأجندة العالمية لحقوق الإنسان. وتتفاقم هذه العملية بسبب الاستجابات غير المُتَّسِقة للصراعات العنيفة وتدابير الهجرة التي تنتهك مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي للاجئين.
ولكن ليس من العدل أن نعزو هذه الانتقائية إلى الحكومات الغربية وحدها. في أوكرانيا، وَثَّقَت المنظمات الدولية هجمات روسيا المُتَعَمَّدة والواسعة النطاق التي تسبّبت في مقتل مدنيين وإلحاقِ أضرارٍ جسيمة بالمباني السكنية والمَرافقِ الطبية والمعالم الثقافية وغيرها، فضلًا عن سوء معاملة السجناء، وإعدام المدنيين، وترحيل الأطفال، وما إلى ذلك… ولم يُثِر هذا الأمر أيَّ ردّ فعلٍ من حلفاء روسيا في المعسكر المناهض للغرب، الذين عادة ما يُسارعون إلى إلقاء اللوم على الغرب في سياسة المعايير المزدوجة عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان. وبالمثل، فإن انتهاكات القانون الإنساني الدولي التي ارتكبتها القوات المسلحة الأوكرانية، أو وكلاؤها (المجموعات المسلحة غير الحكومية) لم تُثِر ردَّ الفعل المناسب من حلفاء أوكرانيا الغربيين والمُزَوِّدين الرئيسيين للأسلحة لها.
في الأسابيع التي تلت الهجوم غير المسبوق الذي شنَّته حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أجرى مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة مناقشاتٍ عقيمة عدّة حول الوضع في غزة. وبينما أكدت الحكومات الغربية بالإجماع تقريبًا على حقِّ إسرائيل في الدفاع عن النفس، إلّا أنها لم تكن قادرة على إجبار إسرائيل على تجنّبِ أو وقف الانتهاكات واسعة النطاق للقانون الإنساني الدولي. وفي الوقت نفسه، فشلت روسيا وحكومات أخرى من المعسكر المناهض للغرب في إدانة انتهاكات “حماس” للقانون الإنساني الدولي على وجه التحديد أثناء هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) وبعده. واتَّسَمَ الصراعُ أيضًا بتصريحات “الإبادة الجماعية” الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين والتي مرّت من دون أن يلاحظها أحد. لذا فإنَّ تواطُؤَ الحكومات، سواء كانت غربية أم لا، مع مرتكبي الانتهاكات المَنهَجية لحقوق الإنسان هو أمرٌ واسع النطاق.
لكنَّ “التوقّعَ هو أُمُّ كلّ الإحباطات” كما يقول أنطونيو بانديراس. يتحمّلُ الغرب عمومًا مسؤولية أكبر في عدم دعمه المُستمر لأجندة حقوق الإنسان. غالبية دول الجنوب العالمي تتحدّث عن حقوق الإنسان بشكلٍ عام، لكن سجلّها ضعيفٌ في مجال حقوق الإنسان، بما في ذلك تجاه سكانها. ومع ذلك، فإنَّ الغرب، من خلال تبنّي معايير حقوق الإنسان رسميًا ومحاولة تعميمها -ولو بشكلٍ انتقائي- محلّيًا وفي السياسة الخارجية، رفع التوقّعات حول مُلكِيّة ومستوى الدعم للأجندة العالمية لحقوق الإنسان. إنَّ الطريقةَ التي كانت تتصرّفُ بها الحكومات الغربية في مواقف مُتعدّدة منذ العام 1948 بشكلٍ عام، ولكن منذ تسعينيات القرن العشرين على وجه التحديد، لم تَرقَ إلى مستوى تحذيراتها. في الآونة الأخيرة، كان الفشل في محاسبة إسرائيل على أعمال العنف المُتَعَمَّدة والعشوائية الواسعة النطاق، في حين تمارس حقها المشروع في الدفاع عن النفس في غزة، هو القشّة التي قصمت ظهر “الحقوق العالمية”. إنَّ هذه الضربة القاضية للإطار الفلسفي والقانوني الذي عزّزَ العلاقات الدولية على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية سوف يتردّد صداها على مستوى العالم، مع ندوبٍ أعمق وطويلة الأمد وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأجزاءٍ من أوروبا.
إنَّ انهيارَ النظام الدولي لحقوق الإنسان سيؤثّر في التماسك الاجتماعي في بعض دول الاتحاد الأوروبي مع تزايد الهجرة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والنمو السريع للسكان المُسلمين. سوف تؤثّر تصوّرات الحكومات المُتَحَيِّزة في التكامل والإندماج الصعب أصلًا للاجئين والمهاجرين. وسوف يساهم في تعزيز مشاعر الاغتراب والنفور والانعزال، وسيُعيقُ ارتباطَ المهاجرين بهويةٍ وطنية مشتركة، ويزيد من خطر الانقسامات الاجتماعية.
قد يؤدّي انخفاضُ الحماية إلى تفاقمِ التحدّيات التي يواجهها المهاجرون واللاجئون والأقلّيات، ما قد يؤدّي إلى توتّراتٍ اجتماعية في البلدان المُضيفة، نتيجةً لفقدان الثقة في مؤسسات الدولة والإجراءات القانونية الواجبة. ومع استمرار هؤلاء السكان في تغذية مخاوفهم من التهميش والإقصاء، فإنَّ تصوّرهم بأنَّ عليهم طلب الحماية خارج النظام الدولي لحقوق الإنسان سيدفعهم إلى سلوكيات قصوى. وبشكلٍ أكثر تحديدًا، من المحتمل أن تؤدي مشاعر الحرمان والظلم إلى خلقِ ظروفٍ ستستغلّها الجماعات المتطرفة، سواء كانت إسلامية أو جماعات يمينية متطرّفة. ويتطلّب التخفيف من هذه المخاطر الالتزام بدعم حقوق الإنسان، وتعزيز السياسات الشاملة، ومعالجة الأسباب الجذرية لعدم المساواة الاجتماعية، سواء كانت مُتَصَوَّرة أو حقيقية. إنَّ الجهودَ المبذولة للحفاظ على إطارٍ دولي قوي وفعّال لحقوق الإنسان أمرٌ بالغ الأهمية لتعزيز مُجتمعٍ عادلٍ ومُتماسِكٍ في الغرب.
في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتمثّل الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار والنزاعات والهجرة في تزايد عدم المساواة وغياب الحراك الاجتماعي التصاعدي. إنَّ فشلَ النظام الدولي لحقوق الإنسان من شأنه أن يزيدَ من إجهادِ إطارِ الحوكمة الذي يُعاني أصلًا من ضائقةٍ بسبب تَرَكُّزِ السلطة، وانتشار الفساد، وعدم كفاية سيادة القانون، الأمر الذي سيؤدي بوضوحٍ إلى تفاقمِ الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. وإضافةً إلى تدنّي احتمالات التوصّل إلى تسوية سياسية دائمة لمختلف الصراعات والبوصلة الأخلاقية المُشَوَّهة، فإنَّ المنطقة ستظل، للأسف، عُرضَةً للمزيدِ من العنف المنهجي، والضائقة الاقتصادية التي طال أمدها، والاضطرابات الاجتماعية. ومن المؤكد أنَّ أجندةَ حقوقٍ للإنسان صحّية وقوية ومملوكة محلّيًا سوف تساعد على كسر دوائر العنف التي لا نهاية لها في المنطقة.
على الرُغمِ من بعض الإنجازات التي تحقّقت منذ العام 1948، فإنَّ العواملَ السياسية والثقافية والاقتصادية المُستمرّة أعاقت الالتزامَ الكامل والعالمي بمعايير حقوق الإنسان. لقد أدّى التطبيقُ الانتقائي للمعايير المُزدَوجة من قبل الحكومات، سواء الغربية أو البلدان المناهضة لها، بالإضافة إلى الاعتبارات الجيوسياسية، إلى استجاباتٍ غير مُتَّسِقة للصراعات وانتهاكات حقوق الإنسان. ستكون لهذا الانهيار في النظام الدولي لحقوق الإنسان عواقبُ وخيمة، لا سيما في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على التماسك الاجتماعي، والهجرة، والمزيد من العزلة بسبب الحُكمِ المُتَحَيِّز، الأمر الذي سيفتح الباب أمام استغلال الحرمان من الحقوق من قبل الجماعات المتطرفة. إن منع المزيد من النزاعات العنيفة يتطلّب إطارًا دوليًا موثوقًا وفعّالًا لحقوق الإنسان ُيعَمِّمُ عالمية الحقوق ومُساءلة ومحاسبة الجناة. وسوف يستمر كلٌّ من الغرب والمعسكر المناهض له في المُعاناة إذا لم يتم دفع هذين المَبدأَين إلى صدارة العلاقات الدولية.
- الدكتور إيلي أبو عون هو باحث أكاديمي لبناني وأستاذٌ محاضر في جامعة القديس يوسف في بيروت.
- يُنشَر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية على موقع مركز الأبحاث والاستشارات “ستراتيجي إنترناشيونال”: strategyinternational.org