This piece was originally published on the alhurra website www.alhurra.com
د. إيلي أبو عون/
ليس غريبا أن يبدأ ربيع لبنان ـ بلد التناقضات ـ في فصل الخريف. كثرت المواقف والتحاليل ولكن وهج ما حصل أبرز استقطابا حادا يمجد الشعبوية على حساب التفكير المنهجي والموضوعي.
لا شك أن ما يحدث حاليا مفصلي وتاريخي وما بعده لن يكون ما قبله. ومما لا شك فيه أيضا أن غالبية المعترضين يعبرون عن وجع مزمن، حقيقي وقاتل لم يكن ليستمر رغم حقن المورفين “البلدية الصنع” (هندسات مالية وخطط مجتزأة وغيرها) والإفرنجية (مؤتمر سيدر، ودائع متفرقة…).
يشكل حراك أكتوبر البيروتي حالة استثنائية على عدة أوجه. بالإضافة إلى أنه عابر للطبقات والمذاهب والمناطق ـ عكس انتفاضة آذار (مارس) 2005 مثلا المركزة في بيروت حينها أو حراك 2015 ـ إنه حراك عفوي بالإجمال وبدون قيادة تنظيمية (ولو أن هناك قادة رأي يؤثرون في مسار الحراك).
كذلك برهن عن قابلية للاستمرار لم تتمتع بها التجارب السابقة وصحح صورة خاطئة عن المرأة اللبنانية فرأيناها تلعب دورا محوريا وفي الخط الأول حتى في المواجهة الجسدية مع مناهضي التظاهرات. كما بينت ما يعرف الآن “بأيقونة الثورة” (المرأة التي ترفس رجلا من جهاز حماية الشخصيات في وسط بيروت).
من المطالب تعزيز سيادة القانون والمؤسسات
من ناحية المفاعيل، أرسى هذا الحراك معايير وسقوفا جديدة للعلاقة بين المواطنين والساسة المنتخبين، المعينين أو حتى الحزبيين عندما بلور ـ عند غالبية الشعب ـ حسا مواطنيا يتلاقى مع الهويات الأخرى (حزبية، دينية، ثقافية، اجتماعية…إلخ) ولا ينقضها بالضرورة.
ورغم هذه الخصائص الإيجابية والتاريخية، يواجه الحراك تحديات عملاقة، أولها علاقته مع التشكيلات السياسية الموجودة (حزبية رسمية أو غير رسمية كالتجمعات السياسية). رغم المسؤولية المباشرة لكل تشكيل سياسي شارك في منظومة الحكم منذ 1990 (ولو بنسب مختلفة) إلا أن شيطنة الأحزاب وتعميم صورة أن كل حزبي هو شخص سيء وأن دور الأحزاب في الحياة السياسية غير ضروري وغير مرحب به هو مسار تدميري يعيق قيام نظام سياسي ديمقراطي ويؤسس لمرحلة من الفوضى أو بالحد الأدنى لتسلط فئات معينة واستبعاد أخرى لأن أي عملية استنهاض سياسية لا تستكمل من دون وجود تشكيلات سياسية ذات شرعية شعبية.
لذا الأجدى بقادة الرأي في الحراك الحالي أن يفكروا بنموذج يشدد على التفاعل مع أحزاب متجددة وعصرية عوض شيطنتها ـ نموذج يعطي دور بناء للأحزاب والحزبيين إذا التزموا ببرنامج الحراك ومنظومة قيم محددة.
من ناحية أخرى كان واضحا في أول أيام الحراك استخدامه من قبل بعض الأحزاب المناهضة لرئيس الجمهورية لتصفية حسابها مع العهد ولاحقا ركوب مجمل الأحزاب موجة الحراك عندما تيقنوا من غضب الشعب وتصميمه على التغيير.
فتبنى الأفرقاء السياسيين من دون استثناء الحراك مما يطرح السؤال عمن يدخل السجن من الفاسدين إذا كان الحراك مدعوما من جنبلاط وبري وجعجع والجميل، ووهاب وحزب الله وباسيل وعون والحريري وميقاتي والمجتمع المدني والحركات اليسارية.
لذا حماية الحراك من الانتهازيين ـ أحزابا وأفرادا ـ يجب أن تكون أولوية في المرحلة الحاضرة. ولا يخفى أن عامل الوقت يكون عادة لصالح الحركات المنظمة. فمن دون خطة استباقية سوف تنقلب خصائص الحراك (عفوي ومن دون قيادة تنظيمية) من نعمة إلى نقمة.
بلورة هكذا خطة استباقية يفرض وجود رؤيا عملانية للحراك. حتى هذ اللحظة يتكون الحراك من مجموعات متفرقة تجمعها النقمة على طبقة سياسية فاسدة وفاشلة ولكنها لا تجمع بالضرورة على مطالب عملية محددة.
يمكن القول “إنهم يعرفون ما لا يريدون لكنهم لا يتفقون على ما يريدون”. لذا تنطوي عملية تطوير أهداف محددة وآليات واضحة لتحقيق هذه الأهداف على أهمية قصوى. ولقد انتقد البعض هذا الطرح واعتبروه غير عادل إذ أن واجب الحركات الاعتراضية محصور بالاحتجاج بينما واجب الفريق الحاكم إيجاد الحلول.
يمكن أن ينطبق هذا المبدأ على حركة مطلبية عادية أما عندما تدعي هذه الحركة أنها “ثورة” وهدفها “تغيير النظام” فمن واجبها امتلاك خطة عمل واضحة وقابلة للتطبيق.
ومن أهم المعوقات أمام هذا الجهد هو أن معظم قادة الرأي في الحراك إما يتمتعون بالكفاءة ولكن يفتقدون للخبرة أو أنهم يفتقدون الاثنين معا فيعولون على شعارات أو أفكار فضفاضة، شعبوية أو غير قابلة للتطبيق أو قائمة على ديماغوجية اقتصادية واجتماعية وسياسية.
كذلك يسوق البعض مثلا أن الحراك لا يتفاوض حتى “رحيل الجميع” في استعادة لصورة نمطية من المنطقة العربية (الديكتاتور وعائلته يرحلون، يقتلون أو يسجنون) لا تنطبق أبدا على لبنان حيث النظام مركب وتعددي.
فما يحصل اليوم في لبنان يجب أن يؤدي إلى إطلاق مرحلة انتقالية تأخذ بعين الاعتبار تركيبة المجتمع اللبناني والهواجس السياسية للمواطنين (بالإضافة إلى الهواجس الاقتصادية والاجتماعية).
فمثلا كيف نتصور إجراء محاكمات عادلة للفاسدين في غياب سلطة قضائية مستقلة وفي ظل فراغ قانوني في مجال المساءلة العامة (في لبنان لا يوجد قانون عن تضارب المصالح في القطاع العام مثلا) وفي غياب قاعدة بيانات ضريبية متكاملة. وكيف نتصور تفاعل أعداد كبيرة من المتظاهرين عندما يستوعبون مثلا أن إجراء انتخابات وفق قانون “غير طائفي” وعلى أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة سوف يؤدي على الأرجح إلى أن يكون الرؤساء الثلاثة من طائفة واحدة.
معظم قادة الرأي في الحراك اليوم وغالبية السياسيين يلجأ إلى الشعبوية
ومن الأفكار الوهمية المتداولة أيضا هي صياغة دستور جديد من قبل “لجنة خبراء مستقلين” ومن ثم إجراء استفتاء حوله، في بلد لا يملك سجلات دقيقة بسبب أن أي مسح ديمغرافي علمي سوف يكون له تداعيات خطيرة.
من المطالب أيضا تعزيز سيادة القانون والمؤسسات وهو أمر أساسي طبعا لاستبدال المزرعة الموجودة بدولة ذات صدقية. وهنا يطرح السؤال عن تصور قادة الرأي في الحراك لمقاربة إشكالية “حزب الله” ومؤسساته الأمنية والاقتصادية والمالية ودوره في النزاعات الإقليمية وعلاقته الملتبسة بالقوى العسكرية والأجهزة الأمنية اللبنانية. فهل سنطبق القانون ومحاربة الفساد انتقائيا لاستحالة اخضاع الحزب لمقتضيات قيام دولة قادرة أم أن هناك خارطة طريق تعالج الإشكالية دون التسبب بحرب أهلية جديدة؟ فهل المضي بتغيير النظام مع تجاهل مشكلة إقليمية ودولية بهذا الحجم يخدم مصلحة الحراك أم يكون لصالح حزب في غاية التنظيم وبموارد جمة؟
ومن الأسئلة المحورية ما هو سلم قيم الموجود والمقبول من السواد الأعظم من اللبنانيين (من ضمنهم المتظاهرين). فلا نرى مثلا أي احتجاج يستهدف مؤسسات خاصة أو حتى قطاعات عرفت بفسادها كالمستشفيات الخاصة ومختبرات التحاليل وشركات الأدوية ومكاتب تعليم السياقة وكبرى مكاتب المحامين ومقاولي الأشغال العامة والجامعات الخاصة، والمؤسسات الدينية وغيرها من أعلام الفساد “الخاص”.
كما ولم نر رد فعل شعبي أو مدني- في حينها -يتناسب مع فظاعة الوقائع التي كشفها مدير عام وزارة المال منذ ستة أشهر عن الحسابات العامة ومتاهات تدقيقها. من المعروف أن انتقائية المساءلة واستنابتيها عدو للعدالة لذا التركيز على بعض السياسيين والمصارف دون سواهم من رموز الفساد يضر ولا ينفع.
ومن أحد أسباب الانتقائية في هذا الحراك وما سبقه أن الجمهور المعترض يحكم على الأمور بمعايير مزدوجة. فالطبيب مثلا يعتبر دفع مبلغ إضافي لتسجيل شقة أو سيارة فسادا فيما يعتبر تقاضي عمولة على وصف أدوية أو تحاليل معينة “شطارة”.
كذلك المحاسب الذي يوقع على تقرير تدقيق مالي مقابل بدل دون الاطلاع عليه من باب “الربح المشروع” أو سائق التاكسي الذي يستعمل لوحة مزورة أو المواطن الذي يبني غرفا إضافية خلافا للقانون في بيته ويلجأ للتسوية المالية أو الواسطة وغير ذلك من نماذج الاستنسابية في تقييم ما هو فساد وما هو مشروع.
من أهم عوامل نجاح هذا الحراك هو قبول الرأي العام بمتطلبات الإصلاح. وهنا تبرز معوقات كبيرة بسبب عدم دراية غالبية المواطنين بالتضحيات المطلوبة لإجراء تغيير جذري نحو الأفضل.
ومن هذه التضحيات مثلا تحجيم القطاع العام، وما يعنيه ذلك من إنهاء لخدمات عدد كبير ـ لا يقل عن الثلث ـ من موظفي هذا القطاع لتحسين فعاليته وترشيده. كما يتطلب العمل على التخفيف من التهرب الضريبي وإعادة النظر بتسعيرة بعض الخدمات العامة وبتنظيم الاقتصاد الموازي (غير الرسمي) وبتغيير النظام الاقتصادي الحمائي ومكافحة الاحتكار وغيرها من الإجراءات الموجعة التي لا تتم من دون مقبولية المجتمع، كونه كعلاج مرض مزمن لا يتم بالمسكنات بل ببروتوكول علاجي متكامل، موجع وطويل.
أرسى هذا الحراك معايير وسقوفا جديدة للعلاقة بين المواطنين والساسة المنتخبين
فنرى معظم قادة الرأي في الحراك اليوم وغالبية السياسيين يلجأ إلى الشعبوية (البلد منهوب وغير مفلس…) بدل الحوار مع مكوناتهم عن كيفية المضي بهذه الإجراءات الموجعة مع تخفيف آثارها الاجتماعية السلبية.
وهنا يبرز خطر “اليسار التقليدي” الذي يعتبر أن ” الدولة الراعية هي الحل”، متجاهلا أن موارد الدولة تأتي أساسا من ضرائب المواطن وأن الدولةلا تجني المال من العدم.
لبنان اليوم يشبه مريضا يحتضر بسبب أخطاء جسيمة ارتكبها أطباؤه المعالجون على فترة سنوات فجاء أهله إلى المستشفى وكسروها وعطلوا آلة التنفس الاصطناعي وقتلوا كل الأطباء وبدأوا بارتجال العلاجات دون اللجوء إلى اهل الاختصاص وعندما طلب منهم التبرع بالدم للمريض لإنقاذه تهربوا تحت حجج واهية.
هل يعي شعب لبنان أن التغيير المرتجى يبدأ عند كل مواطن ومواطنة قبل السياسي والمصرفي ورئيس الحزب، وأن ما تقبلناه وساهمنا به على مدى عقود يستوجب أن ندفع ثمنه بأنفسنا اليوم؟ وهل يستفيق الرأي العام على المصائد المنصوبة من قبل كبار السياسيين وصغارهم وعلى تبعات قرارات يتخذها معظم قادة رأي الحراك من باب الانتهازية أو الشعبوية أو عدم الكفاءة والخبرة؟