Geekondoor-4

كيف نحمي مسيحيي لبنان؟

assafir.com

أرعبت الحركات التكفيرية الكثيرين في المنطقة العربية، ولكن أبرز التداعيات كانت في لبنان في ظل مواقف دراماتيكية تبنتها شخصيات زمنية وروحية مسيحية تدعو الى اجتثاث هذه الظاهرة والتعامل معها على أنها «خطر وجودي»

لا يكمن خطر هذه الظاهرة فقط بالموارد والقدرات الظرفية التي تمتلكها هذه المجموعة المتطرفة أو تلك، ولا ببعض الانتصارات المؤقتة التي حققتها في هذا البلد أو ذاك، بل بانتشار الفكر التكفيري بشكل تصاعدي في المجتمعات العربية

فالموضوع لا يرتبط بالوضع السوري حصراً كما يخطئ بوصفه الكثيرون عن قصد أو من غير قصد. إنه اجتياح فكري – بدأ منذ زمن ـ للمجتمعات العربية تحت ستار «مكافحة تهميش السنة».

هذه المقدمة عن طبيعة الخطر الذي يدَّعي المسيحيون مواجهته في لبنان والمنطقة ضرورية لإثبات «مدى شمولية الخطر» وتداعياته على مجمل سكان المنطقة العربية بمن فيهم غير المسلمين من مسيحيين وأزيديين وصابئة وآخرين، إذ إنه يطال بالدرجة الأولى المسلمين في المنطقة من سنة وشيعة ودروز وعلويين وإسماعليين وغيرهم، كما يطال غير العرب مثل الأكراد وآخرين.

ولا بد من التأكيد أن أي «خطة دفاعية» لن تنجح ما لم ترتكز على فهم دقيق لمجمل المخاطر التي يواجهها المسيحيون – بمن فيها الحركات التكفيرية ـ فحصر هذا الخطر بالحركات التكفيرية هو شبيه بالإستراتيجية الفاشلة للأنظمة العربية منذ 1948 التي حصرت كل المخاطر التي يواجهها العرب بإسرائيل، ففاتهم قطار التقدم حتى نهش الجهل مجتمعاتنا وزاد من قوة إسرائيل من حيث لا تدري.

في هذا الإطار، فاجأني كثيراً طرح بعض رجال الدين بتأمين الحماية العسكرية الأجنبية للمسيحيين في الشرق، مما يوحي بعدم دراية بطبيعة المخاطر وبالانجرار وراء مواقف غريزية عاطفية لن ترتد إلا بالسوء على المسيحيين بالدرجة الأولى. اما الطرح الآخر غير المجدي فليس إلا الترويج لفكرة تسليح المسيحيين. ألم نكتو بعد من هذه الطروحات المدمرة؟ كم مرة حمل المسيحيون السلاح دون أن ينتهي الأمر بالاقتتال الداخلي؟

وفي معمعة التنظير عن حماية المسيحيين تأتي الدعوات بالاحتماء بأنظمة ديكتاتورية للحد من مخاطر الحركات التكفيرية. لكنه فات على هؤلاء المنظرين أن هذه الحماية مشروطة بالولاء المطلق لحاكم يلبس ربطة عنق ويشرب الكحول ولكنه لا يتوانى عن «تكفير» ـ ولو بطريقة منمقة – كل من خالفه الرأي فيضطهدهم ويغتالهم ويعتقلهم، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. لذا يجد المسيحيون اليوم أنفسهم محشورين باختيار إما «الطاعون» أو «ألكوليرا»، طبقاً للمثل الفرنسي الشهير. فما الفرق بين الولاء المطلق للديكتاتور أو للخليفة؟ ألا ينتج في الحالتين التخلي عن «الحرية» و»الكرامة». كيف نصبو الى عيش كريم عندما نفقد حريتنا؟

وضمن المنظومة نفسها يأتي الطرح التافه الذي يطلب من المسيحيين تحديد «دور» لهم لتبرير وجودهم وحمايتهم فتنهال التصاريح – من مسيحيين ومسلمين – المطالبة بحماية الوجود المسيحي «نظراً للدور المهم الذي يلعبونه»، فيصبح احترام المسيحي واجب ليس لإنسانيته بل بسبب دوره في المنطقة ويضحي المسيحيون «أدوات تؤدي وظيفة» ليس إلا. لقد جرب المسيحيون في لبنان والمنطقة نماذج عدة من الحماية، كمبايعة أنظمة ديكتاتورية واللجوء الى القوى الخارجية والحماية الذاتية المسلحة والتقوقع ورفض الآخر وكلها باءت بالفشل. لا بد من السؤال لماذا لم ينجح أي نموذج من هذه في تدعيم الوجود المسيحي؟

إن الخطر على الوجود المسيحي ليس ظرفياً ولا طارئاً (داعشياً) بل يأتي من عدم تحليل علمي ليس فقط لحدة الخطر الخارجي بل بتجاهل نقاط الضعف لدى الجهة المستهدفة بالخطر وبقدرات هذه الجهة لمواجهة الخطر كما تفرض المقاربة العلمية الثلاثية الأبعاد المعتمدة في تحليل المخاطر بشكل عام. لذا الخطر الأكبر اليوم هو بتبني المسيحيين نظرية «الخطر الوجودي التكفيري» وصب الجهد على مكافحته من دون الالتفات الى البعدين الآخرين أي نقاط الضعف والقدرة على المواجهة. وفي تحليل نقاط الضعف ينتابني التصميم على إبراز أمثلة حية من حياتنا العامة وعدم الاكتفاء بالبعد النظري: ÷ من أراد حماية المسيحيين عليه أن يترجم قيمة «الغفران» في التعاطي المسيحي بالشأن العام. فهل يعقل أن يكون قد سامح القواتي الكتائبي وأن يسامح الكتائبي الفلسطيني وأن يسامح العوني السوري وأن يسامح الشمعوني القواتي ولم يتسامح القواتي مع العوني بعد؟

÷ هل نحمي المسيحيين بقبول ممارسات تنتهك حقوق الإنسان من قبل مؤسسات كنسية كفرض الرقابة المسبقة من قبل الكنيسة على الأعمال الفنية والأدبية؟ وهل نحمي المسيحيين بأن نقبل بعدم محاسبة الضباط والقضاة الذين ارتبطت اسماؤهم باضطهاد الناشطين المسيحيين فنفخر بتعيينهم وزراء ونواباً وسفراء ونفرش لهم السجاد الأحمر في الصروح الدينية؟

÷ وعلى سبيل المثال لا الحصر، هل نخدم الوجود المسيحي بأن تغطي المستشفيات تحت إدارة الرهبانيات أخطاء أطباء مسيحيين من دون محاسبة وقبول السواد الأعظم منهم عمولات على الأدوية والتحاليل الطبية من المرضى؟ ÷ هل فعلاً نحصن الوجود المسيحي عندما نقبل بالعنف المدرسي في المدارس التي تديرها المؤسسات الدينية المسيحية، أو في عدم الشفافية المالية في إدارة هذه المؤسسات؟ أو أن نقبل بتعليم ديني يروِّج «لمخافة الله» بدل احترامه ومحبته؟ ÷ هل يكون دعم المسيحيين في مناطق وجودهم عبر مبادرات رمزية كبناء كنيسة أو مدرسة أو جامعة من دون السعي الى خلق حركة اقتصادية في تلك المناطق لاستيعاب القوى العاملة وتحفيز الناس على البقاء؟ فتكثر في مجتمعنا الكنائس والمدارس والجامعات وتقل فرص العمل، إن وُجدت؟

÷ هل نعزز الدور المسيحي بأن نغطي قرارات رؤساء بلديات مسيحيين تتعرض مباشرة للكرامة الانسانية وتروج للتمييز والكراهية؟ وهل يمكن تفسير غياب أي آلية مسيحية تحد من استعباد عاملي وعاملات الخدمة المنزلية من قبل العائلات المسيحية؟ ÷ هل سأل المسؤولون السياسيون والاقتصاديون والروحيون أنفسهم لماذا يرضى الشاب المسيحي أن يعيش في مجتمع ناءٍ في السعودية أو قطر مقابل 1500 دولار شهرياً؟ ألا يمكن توفير فرص عمل مشابهة في مناطق نائية مسيحية بنفس الشروط لو اتحدت مجموعة مستثمرين مسيحيين وتنازلت عن نسبة من صافي أرباحها لمصلحة تقوية الوجود المسيحي؟ إن حماية المسيحيين لن تكون هذه الحماية مجدية إلا إذا اعترفنا بأن أكبر خطر على المسيحي هي ممارسات المسيحي نفسه في ابتعاده عن قيم مؤسسة الدين المسيحي.

لن نحمي مسيحيي لبنان إلا باعتماد إطار جديد للعمل المسيحي العام يعتمد على احترام الحرية الفردية وقبول مبدأ المساءلة والمحاسبة الطوعية على جميع المستويات – الخاصة والعامة – واعتماد مبدأ التسامح تيمناً بتعاليم السيد المسيح فنحضن الإبن الضال بدل «تكفيره». وبأن نبني شبكات حماية اقتصادية واجتماعية لا تعوز المسيحي اللجوء الى أي طرف غير مسيحي طلباً لوظيفة أو خدمة أو معونة مدرسية أو طبية، فنحّد عندئذ من شراء أصوات المسيحيين. نحمي المسيحي عندما نربيه على قيم حقوق الانسان لا التزمت وكره الآخر والخوف، وعندما نقنعه أنه يكون أقوى عندما يصون كرامة غيره ـ من المسيحيين وغير المسيحيين – بدل أن يعوِّل على معادلات قوة يمكن أن تكون لمصلحته في زمان ومكان معينيْن ولكنها تتغير سريعاً فنصبح ضحايا ما اقترفت أيدينا. نحمي المسيحي عندما نعتمد إستراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب لا تعتمد فقط على المواجهة العسكرية والأمنية بل تتعداها الى الأبعاد التنموية والحقوقية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية. فإما أن نعمل على حلول تضمن سلامتنا وتصون كرامتنا في آن معاً أو أن نرحل لأننا لا نستحق أرض أجدادنا

Add a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *