This piece was originally published on the alhurra website https://www.alhurra.com
بقلم إيلي أبو عون/
في خضم النزاعات التي يشهدها العالم والتساؤلات الكبيرة حول المفاهيم الانسانية، والاختلاف في ترجمة حتى تلك السائدة منها، يبرز الحديث عن أهمية الكرامة الإنسانية وكأنه تحد للواقع المأزوم أو حنين إلى زمن مضى ولن يعود.
لكن المتوجسين من التركيز على الكرامة الإنسانية في زمننا الراهن، ينسون أو يتناسون أنها مفهوم أصيل في البشرية منذ الخلق، وأن هذا المفهوم بالذات هو حجر الزاوية الذي ارتكز إليه مشرعو العالم وقادته عندما قرروا سن قوانين وشرائع وإعلانات عالمية لا “تمنح” الإنسان حقوقه كما يعتقد البعض، بل “تعترف” (والفرق كبير بين المنحة والاعتراف) بحقوق أصيلة في جوهر الإنسان منذ وجوده.
وإذا أردنا أن نتمعن في التعاليم الدينية والقوانين الوضعية والتيارات الفلسفية والمواثيق الاجتماعية، على اختلافها وتميزها وتمايزها عن بعضها البعض، سنلاحظ بما لا يقبل الشك أن جميعها تعترف بأن للشخص الإنساني حيّز مختلف وكرامة مرتبطة ارتباطا عضويا بإنسانيته في كل زمان ومكان.
إن دور المجتمع المدني في هذا المجال أساسي، لكن تشوبه معوقات؛ أولها، فقدان هذا المجتمع مصداقيته ومشروعيته
صحيح أن تعريف كرامة الإنسان يختلف بحسب التيارات والرؤى، حيث أن أحدا، على مساحة العالم طولا وعرضا؛ شمالا وجنوبا؛ شرقا وغربا، لا يعلن أو يتبنى أو حتى يلمح إلى أنه يقوم بأعمال قمع أو أعمال تنتهك كرامة الإنسان بالمطلق.
حتى الديكتاتوريات المثبتة، لها تفسيرها الخاص لما تقوم به، ولا تتوان عن وصف أعمالها بأنها لصالح الإنسان وكرامته، بحسب قاموسها وحتى دساتيرها.
وهنا الفرصة السانحة: طالما الكرامة الإنسانية كمفهوم أخلاقي، مقبولة لدى الجميع ولو ظاهريا، فإنه من الضروري تعزيز هذا القبول وتمكين الناس، أينما كانوا، من التعرف إلى الترابط بين كرامتهم الإنسانية، وممارسة حقوقهم بمثابرة وإصرار. فالكرامة الإنسانية مفهوم شامل، عابر للأعراق والطوائف والألوان والنوع الاجتماعي والرأي السياسي.
صحيح أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تبدو وكأنها في خريف الكرامة الإنسانية وخارج مدارها، لكن أي حل وعبور إلى الربيع، الحقيقي طبعا، لا بد وأن يبدأ بجردة حساب واعتراف علني باقتراف الذنوب تجاه الكرامة الإنسانية. لائحة الإدانة طويلة وهي عابرة لحدود الدول، إذ أن معظم هذه الانتهاكات مشتركة بين العديد من الدول حتى المتحاربة مع بعضها البعض.
النزاعات العنيفة التي تعصف في المنطقة، وجرائم الحرب والاغتيالات والمجازر والأعمال الإرهابية والتعذيب كلها انتهاكات دموية للكرامة الإنسانية، ولا بد من وضع حد لها وتغليب ثقافة الحوار على ما عداها.
لكن لانتهاكات الكرامة الإنسانية أوجه أخرى: العنف ضد المرأة ومنعها من إعطاء الجنسية لأطفالها ومنع المطلقات من تسجيل أطفالهن وزواج القاصرات، انتهاك للكرامة الإنسانية؛ كذلك جرائم الشرف والتمييز في الميراث والأحكام العرفية ضرب للكرامة الإنسانية كما الإخفاء القسري والتوقيف الاعتباطي.
قوانين الانتخابات التي لا تعطي النساء والمعارضين السياسيين والأقليات العرقية أو الدينية أو اللغوية فرصة متكافئة للترشح والفوز هي أيضا انتهاك للكرامة الإنسانية تحت أي ذريعة أتت. التصرفات العنصرية تجاه اللاجئين والمهاجرين والعمال الأجانب، انتهاك للكرامة الإنسانية كذلك هو الجوع، والعطش، والمنع من تملك الأراضي وعمالة الأطفال وغيرها من الممارسات التي تحط من كرامة الإنسان.
وفي موازاة تعداد الانتهاكات، لا بد من طرح إشكالية البعد المجتمعي للمسألة، بالإضافة إلى أبعادها القانونية والسياسية. فتعزيز الكرامة الإنسانية لن يكون فقط عبر تغيير القوانين أو الأنظمة، بل عبر إقناع مختلف شرائح المجتمع بجدوى مفهوم الكرامة الإنسانية على أوسع نطاق ممكن وإبراز الحالات التي مكّنت أفراد أو مجموعات من استعادة حق أو الدفاع عن مصلحة معينة دون اللجوء إلى وسائل عنيفة أو منتهكة للكرامة والحقوق. فالقناعة الشائعة هي أن الدفاع عن الحقوق والسعي وراء مصالح مشروعة، لا يتم إلا عبر اللجوء إلى العنف واستعمال القوة ومهاجمة الآخر حتى إلغائه، وغير ذلك من الممارسات التي تحط من الكرامة.
إن ما يحدث في المنطقة يحتاج إلى قراءة متأنية على ضوء الإخفاق في تحقيق الكرامة الإنسانية لشعوبها، وعلى الحكومات أن تفتح الأبواب أمام حوار مجتمعي صادق وشفاف ينضوي فيه الجميع للخروج بحلول محددة.
ولعل خير بداية في هذا الاتجاه، اعتماد مقاربة التطور التدرجي في المطالبة باحترام الكرامة الإنسانية في القوانين والسياسات، وفي التطبيق أيضا، بدلا من الإصرار على مقارعة المؤسسات الرسمية أو السياسيين وشيطنتهم بشكل منهجي.
لانتهاكات الكرامة الإنسانية أوجه أخرى: العنف ضد المرأة ومنعها من إعطاء الجنسية لأطفالها ومنع المطلقات من تسجيل أطفالهن وزواج القاصرات
إن دور المجتمع المدني في هذا المجال أساسي، لكن تشوبه معوقات؛ أولها، فقدان هذا المجتمع مصداقيته ومشروعيته. لذا لا بد لمكونات الحراك المجتمعي، وفقا لخصوصية كل دولة، استعادة مشروعيتها المفقودة ـ أو تكوينها في بعض الحالات ـ من خلال تطوير معايير حوكمة شفافة وأطر مساءلة واضحة تطبقها على نفسها بالدرجة الأولى، وتشمل احترام التعددية والقيم المنبثقة عن الكرامة الإنسانية ليس قولا فحسب، بل أيضا بالممارسة والطرح.
وعلى مستوى أشمل، فإن الأسرة الدولية، التي تحتفل في هذه الأيام بمرور سبعين عاما على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مدعوة لإعادة الاعتبار إلى الكرامة الإنسانية من خلال الانتقال من المستوى النظري (وضع أهداف للتنمية المستدامة…) إلى توجيه الموارد نحو مبادرات عملية تهدف إلى تحفيز الحوار وإعادة صياغة العقود الاجتماعية في منطقة الشرق الوسط وشمال أفريقيا، وفرض قيود جدية على الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول التي يثبت تورطها في أعمال مهينة للكرامة.
وإذا كنا جادين في التصدي للتحديات العالمية التي نواجهها، وتحقيق مستقبل أفضل وأكثر استدامة للجميع، علينا أن نعترف بأدوار جميع الأطراف من رسمية وغير رسمية، حكومية وخاصة، نخبوية، وأكاديمية وشعبية، وبالواقع المزري والاتفاق على أن الحفاظ على الكرامة الإنسانية مسؤولية مشتركة، وبترابط أهداف التنمية المستدامة وضرورة تحقيقها جميعا قبل عام 2030 ضمانا لوجود الإنسان على هذا الكوكب، وسلامه وكرامته.
الدكتور إيلي أبو عون، يشغل حاليا منصب مدير برامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد الولايات المتحدة للسلام. وقد شغل مناصب إدارية عليا مع كل من الصندوق العربي لحقوق الإنسان، المجلس الدنماركي للاجئين (DRC) وغيرها من المنظمات الدولية.